بحث في المدونة ..

الجمعة، 28 سبتمبر 2012

المدنية الإسلامية


        مصر . . الدولة النامية – بما تحمله هذه الكلمة من معاني التخلف والفقر والجهل والفوضى ..... إلخ – هي المؤشر الحقيقي  لقوة وإزدهار أو ضعف وإنحطاط المنطقة التي نعيش داخلها فعندما وقعت مصر في شرك التخلف والجهل والعماله وذلك عن طريق إبعادها عن خلفيتها الحضارية وثقافتها الإسلامية أصبح من السهل إنجراف باقي دول المنطقة إلي ذات الهاوية , فمصر الآن هي القائد الضعيف  الذي تتمرد جماعته عليه وتستخف به حتى أصبحت كل الأمم تتمرد علي تلك الجماعة في مجملها , ولا يقوي الجماعة قوة بعض أفرادها لأنهم مهما قوى مازالوا قائدهم غير قادر علي تنظيمهم وتوحيدهم وتنسيق عملهم .
وهنا يأتي السؤال البديهي : كيف تحل المشكلة ؟
الإجابة ليست كصعوبة السؤال , فيسهل حل المشكلة عن طريق تبني مصر لسياسة تؤمن لها التطور والإزدهار المنشود وفي نفس الوقت تكون هي ذاتها سياسة مبنية علي القواعد المشتركة والثقافة الواحدة حتى يتم التواصل مع الجماعة الشرقية , وهذه السياسة ليست سر مبهم إنما هي سياسة واضحة ومجربة وأثبتت نجاحات عظيمة ينحني لها التاريخ .
حتى لا أطيل عليكم المقدمة وتملون القراءة , فإن هذه السياسة هي المدنية الإسلامية  , والمدنية الإسلامية هي سياسة الدولة الداخلية والخارجية في عهد الرسول (صلي الله عليه وسلم) والخلافات الإسلامية من بعده فعندما هاجر المهاجرين إلي يثرب أقام الإسلام بها مدنية إحتوات الجميع رغم إختلاف مواطنهم من مهاجرين وأنصار ورغم إختلاف قبليتهم من أوس وخزرج وحتى رغم إختلاف ديانتهم عاش اليهود تحت لواء هذه الدولة كمواطنين لهم كل الحقوق من إقتسام الثمار وخلافه... وعليهم كل والواجبات مثل الدفاع المشترك... وعاشوا مع المسلمين في تداخل وتناغم - حتى أخرجوا منها بسبب خياناتهم المتتابعة لتلك المدنية والتي وصلت لتحالفهم مع العدوا الخارجي وهم الكفار في موقعة الأحزاب – , ولايوضح روعة وعمق المدنية أكثر من أنها طغت علي إسم يثرب ليتم تسميتها بالمدينة لتكون النموذج الأمثل للمدنية الذي أضاء لكل الخلافات الإسلامية , فتلك الدول الإسلامية لم تكن دول دينية - بالمفهوم السياسي الحالي للدولة الدينية - ولم تكن دول مدنية ذات مرجعية إسلامية , وإنما كانت دول مدنية إسلامية حيث أن الإسلام صاغ نموذج للمدنية في أبهى وأروع صورها فكانت المدنية هي الإسلام والإسلام هو المدنية حيث كانت كل الفئات والألوان والأديان تحيى تحت مظلتها في تناغم وتناسق صاغ الحضارة الأسلامية العظيمة التي هي ثمرة عمل ومشاركة الجميع ويذكر التاريخ نماذج عديدة لمن ساهم في بناء هذا الصرح الخالد وكانت تلك النماذج ليست مسلمة الديانة أو ليست عربية الجنس أو ليست من فئات الصفوة – كما يسموا إنفسهم – وإنما عملت تحت راية هذه المدنية بكل جد وإجتهاد وحرية ومساواه وعدالة حتى إنصهرت داخل آلت الدولة .
ولا أجد مثال يوضح ذلك أفضل من كلام البابا شنودة الثالث عندما قال . .
"في تلك العصور نجد تمازجاً قد حدث بين المسلمين والمسيحين ظل هذا التمازج ينمو شيئاً فشيئاً حتى وصل إلي حالة الوحدة , فلنا في التاريخ الإسلامي صداقات كثيرة بين حكام المسلمين وبين المسيحيين ونراهم قد إعتمدوا عليهم في ميادين عدة لعل من أبرزها التعليم والطب والهندسة والأمور المالية .
وفي التعليم نرى أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان إختار رجلاً مسيحياُ لكي يؤدب إبنه زياد , وزياد إختار كاهناً مسيحياً لكي يؤدب إبنه خالد , والخليفة عبدالملك بن مروان كان يأخذ يوحنا الدمشقي مستشاراً له , وقد إختار رجلاً معلماً مشهوراً إسمه أطاناسيوس لكي يؤدب إخاه عبدالعزيز , ولما صار عبدالعزيز بن مروان حاكماً لمصر إخذ أطاناسيوس معه كمستشار له .
نجد أن الأخطل كان من الشعراء المسيحيين المشهورين إندمج في مجموعة متلازمة مع جرير والفرزدق إشتهرت في العهد الأموي , وكان الأخطل المسيحي حينما يدخل إلي مساجد المسلمين يقوم له المسلمون إجلالاً لعلمه وأدبه كما يروي التاريخ الإسلامي , نرى في التاريخ الإسلامي أمثلة واضحة للسماحة الإسلامية .......... "
خطاب البابا شنودة الثالث في 11 من أكتوبر 1977م , أمام الرئيس السادات , في مناسبة وضع حجر الأساس لمستشفى مارمرقس بالقاهرة .
ومهما قلت ووضحت وأستدعيت ملكاتي وكلماتي فلن أكون معبراً بقدر كلمات الأستاذ الدكتور / عبدالرزاق السنهوري باشا . . فقيه الشريعة والقانون - أبوالمدنية الحديثة الذي ألف القانون المدني المصري العظيم الذي نسير علي هداه حتى الآن والذي صاغ نماذج للمدنية في كثير من الدول العربية بتأليفه قوانين ودساتير لها والذي صمد مدافعاً عن الدولة المدنية ضد هيمنة وطغيان الدولة العسكرية مما جعلها تحرض عليه البلطجية والغوغاء ليقتحموا مجلس الدولة الذي كان هو رئيسه ويقوموا بضربه شخصياً في الواقعة الشهيرة في عهد جمال عبدالناصر – حيث قال . .
" أريد أن يعرف العالم أن الإسلام دين ومدنية , وأن تلك المدنية أكثر تهذيباً من مدنية الجيل الحاضر , وأنه إذا أعجزنا أن ننادي بإسم الدين , لأن عصر الأديان قد تباعد , فمن مصلحة العالم – وقد فسدت قواعد الإجتماع التي يسير عليها – أن يلتفت إلي مدنية نمت وإزدهرت في عصور كان الجهل فيها مخيماً علي ربوع العالم الغربي .
نحن مسلمون للآخرة وللدنيا : أما إسلامنا للآخرة فشييء نحفظه في قلوبنا , أما إسلامنا للدنيا فهذا ما ننادي به أن يحترم .
أرى أن الأمم الشرقية أمامها أمران لا محيص عنهما : إما أن تجري علي المدنية الغربية , وهذا الطريق ليس مأموناً , وإما أن تخط لنفسها مدنية تصل الماضي بالحاضر , مع التحوير الذي يقتضيه الزمن , فتحفظ لنفسها شخصيتها , وتستطيع أن تجاري الغرب , بدلاً من أن تجري وراءه.
مما إستلفت نظري في تعريف الأمة ما قرأته مروياً عن الفيلسوف الفرنسي  رينان : إن الذي يكون الأمة ماضيها , وبآرادة أفرادها أن يعيشوا متحدين .
أرى أن الغرب لا يحسن تقليده إلا في الأشياء المادية , فهو متفوق فيها تفوقاً لا ينازع فيه , أما الأشياء المعنوية فيحسن للشرق أن يواصل تاريخه المجيد دون أن يقلد الغرب في الجوهر , وإن أخذ منه الشكل , وقد سرني أن قرأت في صحيفة مصرية رأي سياسي أفغاني يتفق مع رأيي هذا .
هناك رأي يقول : إن علي مصر أن تنظر إلي المدنيات الغربية فتختار من كلً أحسنه وأرى أن أكبر ضعف في هذا الرأي أنه نسي أن مصر لها مدنية أصلية , وحاجتها الآن هي جعل هذه المدنية ملائمة للعصر الحاضر , وليست مصر الدولة الطفيلية الحديثة التي ترقع لها ثوباً من فضلات الأقمشة التي يلقيها الخياطون .
وددت لو تمكنت – قبل موتي – من زيارة كل بلاد العالم الإسلامي .
أثبت هنا كلمة بالفرنسية قرأتها لأحد الأساتذة الفرنسيين يعرف بها الأمة ( الجماعة الإسلامية ) بقوله : عندما أستعمل إصطلاح الأمة الإسلامية فإنني لا أعني بذلك الإشارة إلي مجتمع المسلمين فقط , وإنما أقصد بذلك مجتمعاً له طابع فذ من المدنية قدمها لنا التاريخ كثمرة للعمل المشترك ساهمت فيه جميع الطوائف الدينية التي عاشت وعملت معاً جنباً إلي جنب تحت راية الإسلام , والتي قدمت لنا بذلك تراثاً مشتركاً لجميع سكان الشرق الإسلامي , بنفس الصورة ولنفس الأسباب التي إعتبرنا بها حضارة الغرب مسيحية , وهي تراث مشترك لا يتجزأ ساهم فيه جميع الغربيين بمن فيهم اللادينيون والمفكرون الأحرار والكاثوليك والبروتستانت .
لا أرى ما يمنع التوسع في معنى (( المدنية الإسلامية )) علي النحو الذي قرره الأستاذ الفرنسي الذي نقلت قوله , وأرى أن المدنية الإسلامية هي ميراث حلال للمسلمين والمسيحيين واليهود من المقيمين في الشرق , فتاريخ الجميع مشترك , والكل  تضافروا علي إيجاد هذه المدنية .
آفة الجماعات الشرقية في مصر فريقان : فريق يتمسك بالماضي الإسلامي تمسكاً أعمى , ولا يتطور مع العصر , فيجلب بذلك عداوة العالم المتمدين ويضحي بالأقليات الدينية الناشطة المنبثقة في الشرق الأدنى , وهذه تلجأ إلي أوربا طمعاً في حمايتها , وبدلاً من أن تبذل مجهوداتها معنا تنقلب علينا , وفريق يريد أن يقطع حبل الماضي فلا يعود له به صلة , وعند ذلك يتمكن من إن إدخال المدنية الأوربية في مصر حتى تصبح جزء من أوربا , دون أن يراعي تقاليد البلاد وتاريخها ومزاجها الشرقي وكلا الفريقين خطر علي الجماعات الشرقية , علي أنه يجب الإعتراف بأن حاجتنا إلي أوربا الآن كبيرة , ولكن هذا ليس معناه تنحية تقاليدنا القومية , إدخال مدنية غريبة عنا في بلادنا الشرقية , فنعدم بذلك روحنا القومية , فإن الذي يربط الأمة برباط قوي هو الماضي , ولن تستطيع أمة أن تتخلص من ماضيها إلا تاهت في ظلمات لا تهتدي فيها , وأحرص ما يجب أن يحرص عليه المصري في نظري هو صبغته الشرقية (( أي الإسلامية )) مهما جرفها تيار أروبا بالقوى , فإننا نستطيع تغيير كل شيء إلا نفوسنا وإيماننا بالله . "
عبد الرزاق السنهوري في أوراقه الشخصية , إعداد / د. نادية السنهوري و د. توفيق الشاوي , طبعة الزهراء للإعلام العربي , القاهرة سنة 1988م.
خلاصة القول . . أن الدول إنعكاس للمجتمعات , والمجتمعات إنعكاس للأفراد , وخلق الله كل فرد منا من نصفين . . نصف مادي وهو الجسم والأعضاء , ونصف روحي متمثل في الروح ، وهذا ما يميزنا عن الحيوانات التي تعيش حياة مادية بحته وتتصرف تلقائياً وفقاً لغرائزها المنبعثه من إحتياجاتها البيولوجية , أما وأن الغرب فقد نصفه الروحي وطغت عليه المادية البحته فأصبح مجتمع ينساق وراء غرائزه ومصالحه المادية دون معايير أخلاقية , حتى وإن نجح في الوصول إلي أقصى حد لتلبية حاجاته المادية , فلقد فقد كل أداة لتلبية حاجاته الروحية والأخلاقية , حتى أصبح أفراده آلات يعيشون دون غاية ولا هدف . . يسعون فقط لتلبية حاجتهم المادية , ولكن ماذا يحدث إن إستطاعوا تلبية كل حاجاتهم المادية ؟
الإجابة تكمن في التجربة السويسرية التي يعيش فيها الأفراد في أعلى مستوى معيشي في العالم , دون أدنى مشكلة , في أعلى درجات الرفاهية , وأيضاً بأعلى نسبة إنتحار في العالم . . فإن المواطن السويسري يشعر بفراغ شديد , فبعدما حقق كل أهدافه المادية وأشبع كل حاجاته المادية أيضاً , يجد أنه لا أهمية لوجوده ولا معنى لحياته ولا متعة في عيشه , فيتجه تلقائياً نحو الإنتحار...
فلقد فقد العالم الغربي الغاية من الحياة وأصبح يعيش فقط علي الوسيلة وجعلها هي الغاية , فأصبح كمن يصطاد الأسماك ليلقيها في الماء .
وأقول لمن يسمون أنفسهم دعاة التحضر والتحرر والتقدم والمدنية " أما نحن فيجب أن نتعلم من مختلف الحضارات فقط ما أبتكروه من وسائل مادية تتفق مع غايتنا الروحية وتوصلنا إليها , لأنه السبيل الوحيد لتحقيق المدنية الفاضلة التي تحرس فيها الذئاب الغنم , وليست المادية السافرة التي يأكل فيها القوي الضعيف " .
كتب / إسلام محمد رضوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لا تكن سلبي تقرأ وترحل.
كن إيجابي وشارك برأيك.

الأكثر مشاهدة ..